14 أبريل . 5 دقائق قراءة . 831
يدخل ابراهيم سوق البزورية في دمشق القديمة، حاملا بيديه قارورة عطر فارغة، هو يتقن صناعة العطور من مختلف المواد، التي تمثل له "روح المدينة" التي سينحت لها في آخر زيارته قبرا، هو يعشق أن يرافق عمله الفني رائحة توازي مفهوم البخور لدى الأديان في تكريم الراحلين.
يمتلك قدرة ميكانيكية في التماس الرائحة التي تناسبه، والقدرة على معرفة مصدرها الأساسي، حين دخل لم يتجه نحو بائع العطور، هو لا يبحث عن أنواع متعارف عليها ويمكن الوصول إليها، هو يرغب بصناعة عطر، أو الكلمة الأدق، خلق رائحة لم تكن قبلا، عند أي بائعا في هذه المدينة على الأقل. وقف عند أول السوق، أخذ نفسا عميقا ليوقف كل الحواس لديه ويطلق العنان لحاسة الشم، التي تتحول إلى غربال ينتقي ما يريده من الروائح المنبعثة. التوابل والبهارات والحلويات، السكاكر والزعتر والحبوب، صارت كغيمة تدور حوله، تتطاير فوق كتفه كالجنيّات، ليبدأ يلتقط ويصنف كل رائحة على انفراد ويتجه نحو صندوق البائع ليختار القليل منها ويضعها في حقيبة جلدية خاصة بالحفاظ على جودة المواد. إبراهيم يوازن قوة الرائحة وطيبتها مع عطر حبيبته، فهو الأكثر نقاء، والواضح من بين كل روائح النساء، والأمل الوحيد لو فقد بصره وسمعه في عمر الكهولة أنه سيبقى يعرف حضورها من عطرها، الذي يمتزج بنوعية بشرتها ليفيض منها رائحة مختلفة عن الموجودة في قارورتها الأصلية.
عاد مسرعا إلى غرفته، وضع المواد على ورق خاص حتى لا يصل إليها الرطوبة، أخرج أدوات التقطير والتسخين ونوعا معينا من الكحول، ليدخل إليه أبو سليم ويقول له " الروائح الظاهرة دفعتني لأصعد إليك لأعرف ما تريد فعله "، أخبره نحات القبور، وصانع العطور، ما يريد فعله، فينظر أبو سليم ويسأل " أين الياسمين؟ تريد رائحة لدمشق دون ياسمين!"، ليرد عليه " رائحته معروفة جدا موجودة في مختلف دول العالم وليس فقط دمشق، وصراحة، صناعة عطر الياسمين هو مسألة تجارية فهو يكلف أقل، بينما صناعة عطور من هذه المواد قد لا يكون موجودا في أي مكان "، ويكمل مبتسما " وهو بالنسبة للتجار قد لا يكون مربحا لأنه يكلف كثيرا بعكس الوردة البيضاء المنتشرة أينما كان في بيوت المدينة "، لينطلق إبراهيم بخلق عطره، الذي لا يعرف أنه سيكون مفتاحا لقصة تحمل الحب والموت له في رحلته. يسأل إبراهيم " برأيك ماذا أطلق عليه اسما؟"، يقول ابو سليم " في عملية الطبخ حتى لو امتلكت المواد الجيدة، المهم أن يكون نفسك طيب، اطلق عليه اسم النفس والروح ".
في أسواق بيروت تتنقل رشا بين محال الأقمشة، تبحث عن قطع محددة لتصنع ثيابا خاصة، هي تخيط بيديها أزياء وتصاميم مستوحاة من أساطير المنطقة. في أثناء تجولها تلتقي بالسيدة سعاد، تلقي عليها السلام، تتبادلان الحديث لتستغرب صاحبة المكتبة "يمكنك شراء الثياب، وحتى لو أردت الخياطة هناك خياطين كثر في المدينة، لماذا تريدين صناعتها بنفسك، أنت باحثة أو خياطة؟"، تنظر لها رشا رافعة حواجبها بالرفض، " في رأسي تصاميم خاصة لا يعرف تنفيذها أحد، سأريك صورا لثياب نفذتها لتدركي تماما سبب هذه الرغبة والشغف ".
تمسك القماش كأنها تحمل قطعة أثرية في طريقة لمسه والنظر لها، هي لا تنظر إلى اللون فقط، إنما ترى انعكاس القماش عليها، في البال ما قاله مرة حبيبها لها، " أنت دهشة متنقلة، مع كل قطعة ثياب أظنها أنها الأجمل، لتكون بعدها أجمل أكثر، كنت أعتقد أن الأساس هو طريقة التصميم، لكن صدقيني حتى لو كانت على غيرك لن تكون كما تتناسق مع تفاصيلك، كأن روحك تشاركك القماش".
رشا تتحول إلى دودة قز، تتشابك الخيوط بين أصابعها، لتحولها إلى نواة أجنحة ملونة لفراشة متمردة على الضوء، تتمايل قطع القماش كموج البحر فوق ذراعها، هي تريد أن تأخذ من بيروت قماشها الحقيقي، لا المستورد، حتى حين تغادر المدينة وتحمل معها فستانها تكون تحمل هوية مدينة.
عادت رشا والسيدة سعاد، المتشوقة لرؤية الباحثة وهي تمسك المقص بيدها، تلك الفتاة التي تحمل الورق والكتب والألواح الطينية كيف ستهبط أصابعها لتقطع القماش. ألقت المواد على سريرها وجهزت المرآة بزاوية تراها بوضوح، أخرجت الأدوات كأنها ممرضة في غرفة العمليات.
رشا، وضعت كتابا أمامها يحكي عن الأساطير، لم تستعن برسمة لتصميم محدد، تقرأ وتنظر في المرآة وتتمايل مع القماش، وبعد خمس ساعات من العمل المتواصل بهدوء وجنون، انتهت من قطعتها، وحين أنزلتها على جسدها، نظرت السيدة سعاد بعيون جاحظة، تنظر إليها والى الصور التي ترتدي فيها فساتين من تصاميمها " أنت مبدعة، لا اصدق أن الأسطورة أصبحت عباءة وفستان "، اتجهت رشا إلى خزانتها وأخرجت قارورة عطر وقالت " الآن اللمسة الأخيرة، بعض العطر لتعطي روحا لها "، قالت السيدة سعاد " هل هو عطرك الخاص؟ "، " نعم، أحب جمع العطور وأهتم بصناعتها وبمن يصنعها فهو خيميائي "، ابتسمت صاحب المكتبة " عدنا إلى الأسطورة الشخصية، كما في لقائنا أول مرة ".
22 فبراير . 6 دقائق قراءة
04 يوليو . 3 دقائق قراءة
24 يونيو . 3 دقائق قراءة